المقاربة الوقائية والزجرية لظاهرة غسيل اﻷموال
بقلم الدكتور : عزيز ندا علي وحميد
غرب في صراع مع ظاهرة الفساد وما يتبعها من صعوبات تتعلق بالجانب التنموي،لكن رغم هذه الصعوبات إلا أن المغرب ماض في إقرار حقيقة واقعية ركيزتها الأساس التغيير والإصلاح لضمان تدبير حسن للموارد المالية، قصد التمكن من تعبئة التمويلات الخارجية والعمل على تخليق الحياة العامة.
وعلى هذا الأساس سارع المغرب إلى محاربة ظاهرة إجرامية جديدة على واقع علم الإجرام تتجلى فيما كشفت عنه التحريات الاستخباراتية عن وجود شبكات لتبييض الأموال لها امتداد في مختلف المدن المغربية ، انطلاقا من الدول الأوربية عبر عصابات تهريب المخدرات على الصعيد الدولي.1
وتفيد نفس المصادر أن تحركات أموال لشركات وهمية موجود بالمنطقة الحرة الصناعية لميناء طنجة الدولي لا تخضع للمراقبة،مما يجعل هذه المنطقة مصدر شبهات حول تبيض الأموال،مضيفة أن أغلب هذه الشركات توجد مقراتها الرئيسية خارج المغرب.
وإنه وفي ظل هذه الظروف وسعيا من الحكومة المغربية نحو إيجاد مخرج لهذه الظاهرة الإجرامية، على اعتبار امتداد الشبكات الدولية المتخصصة في هذا النوع من الجرائم عمدت في فترة سابقة إلى الانخراط الكلي في مكافحة جريمة غسل الأموال،إذ أن المغرب يعتبر من المؤسسين الفعليين لفرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تأسست سنة 2004 والتي تشكل جزءا من الشبكة العالمية لمكافحة غسل الأموال.
كما أن المغرب عمد سنة قبل ذلك إلى اصدار قانون03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب والأموال المتحصل منه نظرا للتداخل الخطير بين جريمتي غسل الأموال والجريمة الإرهابية،وفي نفس السنة انخرط المغرب مع المجتمع الدولي في مكافحة الجريمة المتعلقة بغسل الأموال من خلال التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد بكل تجلياته.
وعلى علاقة بالظاهرة الإجرامية لابد من الإشارة إلى أن المغرب يعد من الدول المصنفة في مناطق وبلدان غير مثيرة لقلق أساسي إلا أنها تبقى تحت المراقبة، جاء هذا التصنيف في تقرير الإستراتيجية الدولية لمكافحة المخدرات لعام 2000 الذي صنف الدول لثلاث فئات
-المناطق المثيرة لقلق أساسي
-المناطق المثيرة للقلق
-المناطق تحت المراقبة
رغم أن هذا التصنيف يطمئن إلا أن أهم أسبابه هو تواجد إسبانيا كدولة مصنفة من بين الدولة المثيرة لقلق أساسي إلى جانب المغرب وأنها تمتص أغلب عمليات غسل الأموال وخاصة الأموال المتحصل من المخدرات،وهذا يعني أن الوضعية التي عليها المغرب ليست ذاتية وإنما هي ترجع بالأساس إلى أسباب خارجية مما يتطلب من المغرب مجهودات أكبر لتصبح المناعة ذاتية 2 .
وفي ظل هذه الأجواء عمدت الحكومة المغربية إلى إصدار مشروع قانون يتعلق بجريمة غسل الأموال تمت المصادقة عليه في المجلس الحكومي بتاريخ 19-04-2006 وصادق عليه المجلس الوزاري بتاريخ 20يوليوز 2006 وأحيل المشروع على البرلمان تحت عدد 05.43 22 يناير 2007 فصادق عليه مجلس النواب وزكته الموافقة التأكيدية لمجلس المستشارين.
وبذلك يكون المغرب قد ترجم في خطوة أولى أحد أهم التزاماته الدولية، ووضع حد للتخوفات التي أصبحت تسود بعض الأوساط والمؤسسات الحقوقية والاقتصادية الدولية، وخاصة بعد صدور ثلاث سنوات على توقيع المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد، والتصنيف الباهت للمغرب حيث احتل المرتبة 79 من أصل 93 دولة في تصنيف لمنظمة الشفافية العالمية لسنة 2005، والرتبة 101 من بين 163 دولة من حيث الفساد الإداري والمالي حسب التقرير الصادر عن مؤسسة غالوب الأمريكية.
كما أن المغرب خطا خطوات هادفة نحو تحصين السوق المالي من الانزلاقات التي تعرفها بعض المؤسسات المالية والمصرفية عبر اتخاذ المؤسسات المالية العديد من المبادرات والتدابير الاحترازية الرامية إلى الحد من جرائم غسل الأموال كما هو الشأن بالنسبة للمذكرة التي أصدرها بنك المغرب سنة 2003 تحت عنوان "أعرف عميلك" التي أقرت مجموعة من التدابير الوقائية والإجراءات الاحترازية للتعرف على مصدر الأموال المشبوهة.
إن الغاية من سن المشرع لهذا القانون هو تحقيق الدينامية الاقتصادية للمغرب، وإيجاد وسائل الردع القانونية، وتحقيق المقاربة الوقائية للظاهرة ، بحيث تكون له آثار إيجابية إن على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، فبعد بضعة أشهر من دخول القانون المتعلق بغسل الأموال حيز التنفيذ نظم بنك المغرب بتعاون مع وزارة العدل ووزارة الاقتصاد والمالية الحملة التحسيسية حول موضوع "الوقاية من غسل الأموال حماية لاقتصاد سليم" والتي امتدت لأربعة أشهر وهمت مختلف مدن المملكة، هدفها الأساس هو توضيح الغايات من المنظومة القانونية الجديدة ومضمونها ومداها، وإلى تبني مقاربة تشاركية بشأن تأويلها وتطبيقها، كما أن غايتها العمل على تحسيس مختلف الفاعلين المعنيين بأهمية المقاربة الوقائية، وإقامة آليات للتواصل بين البنك المركزي والمؤسسات المالية والمصرفية حول مصدر الأموال المشبوهة.
نشير بداية إلى أن المشرع المغربي أدرج قانون غسل الأموال ضمن القانون الجنائي المصادق عليه بموجب الظهير الشريف رقم 413.59.1 الصادر بتاريخ 28 جمادى الثانية 1833 الموافق ل 26 نونبر 1962،مع العلم أن تمة من التشريعات من اختارت تخصيص تشريع مستقل لها كالتشريع اللبناني والأردني ..
كما أن هناك من التشريعات من اختارت تقنين هذا النوع من الجرائم بشكل مستقل في نصوص خاصة كقانون مكافحة المخدرات وغيرها..
وبالرجوع إلى قانون رقم 43.05 المتعلق بجريمة غسل الأموال والذي يتكون في مجمله من أربعة أبواب، سنحاول دراستها من خلال التقسيمات التالية:
المبحث الأول: المقاربة الردعية لقانون 43.05 المتعلق بغسل الأموال.
المبحث الثاني: المقاربة الوقائية لقانون 43.05 المتعلق بغسل الأموال.
.
المبحث الثالث: اختصاص النظر في قضايا غسل الأموال.
المبحث الأول:المقاربة الردعية لقانون 43.05 المتعلق بغسل الأموال.
المطلب الأول: ماهية جريمة غسل الأموال.
أجمع الفقهاء على إعطاء تعاريف لجريمة غسل الأموال مجملها تنصب حول الأفعال الإيجابية أو السلبية المحظورة قانونا، التي يتم اعتمادها من أجل إحداث تغيير جرمي في مصدر الأموال الأصلي والحقيقي ومنحها صفة الشرعية، والتستر على حقيقتها كعائدات متحصلة من أفعال جرميه وإضفاء صبغة الشرعية باعتماد التحايل والمراوغة.
وظاهرة غسل الأموال يمكن تعريفها على أنها إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للأموال المتحصلة من ارتكاب الجرائم المنظمة وإظهارها على أنها أموال متحصلة من مصادر شرعية، وفي سبيل تحقيق تلك العملية تتعدد الوسائل المعتمدة من قبل غاسلي الأموال بين تقنيات أولية تقليدية وأخرى حديثة وذلك تبعا لظروف الدول المعنية بها3
إلا أنه يتعين الإشارة إلى أن تحديد الإطار التعريفي لجريمة غسل الأموال ليس من السهولة بمكان، عكس ما يعتقده الكثير من المهتمين الدين يستندون إلى وضوح تسمية هذا لنوع من الجرائم للقول بيسر تحديد تعريفها..بل إن هذه الجريمة ما زالت لحد الآن محط تضارب مجموعة من الرؤى الفقهية والقانونية بيد أن صعوبة ضبط الإطار التعريفي لجريمة غسل الأموال لم يمنع العديد من الفقهاء من محاولة مقاربة مفهوم هذه العينة من الجرائم وإعطائها تعريف تقريبي لماهيتها، حيث يعرفها الأستاذ نادر عبد العزيز شافي في مؤلفه تبييض الأموال فيقول "...كل فعل يقصد به تمويه أو إخفاء مصدر الأموال أو المداخيل الناتجة بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن ارتكاب إحدى الجرائم... " 4
ويعرفها الأستاذ الكندري محمود أحمد بأنها "..تحصيل أموال غير مشروعة واستثمارها وتوظيفها في عمليات مشروعة، هذه الأموال غير المشروعة عادة ما تتم في دول فقيرة أو في حاجة إلى عملات صعبة"5
ويعرفها الأستاذ يونس عرب بأنها "...جريمة لاحقة لأنشطة جرميه حققت عوائد مالية غير مشروعة وكان لزاما إصباغ المشروعية على العائدات الجرمية أو ما يعرف بالأموال القذرة ليتاح استخدامها بيسر وسهولة، ولهذا تعد جريمة غسل الأموال مخرجا لمأزق المجرمين المتمثل بصعوبة التعامل مع متحصلات جرائمهم خاصة تلك التي تدر أموالا باهظة،كتجارة المخدرات وتهريب الأسلحة والرقيق وأنشطة الفساد المالي ومتحصلات الاختلاس وغيرها ..."6
وتعد جريمة غسل الأموال من المشاكل العالمية التي تحظى باهتمام معظم الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، ويقدر خبراء صندوق النقد الدولي حجم الأموال التي يتم غسيلها سنويا ما بين 620 مليار دولار و 1600 مليار دولار وهذا يعني أنها تشكل نسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي لعام 71999
وبالرجوع إلى القانون المتعلق بغسيل الأموال فالملاحظ أن المشرع تجنب إعطاء تعريف دقيق شأنه في ذلك شأن التفنينات التشريعية الأخرى تجنبا لأية ثغرات محتملة من شأنها أن تعتري التعريف المذكور والتي لا يمكن الكشف عن مكامنها إلا بعد إعمال مقتضيات هذا القانون. على اعتبار أن الممارسة الميدانية تبقى هي وحدها الكفيلة بتبيان عيوب النص التشريعي فضلا عن كون إقرار تعريف محدد لجريمة غسل الأموال يجعلنا في مواجهة إطار قانوني مقيد من حيث الزمان والمكان وعاجز عن استيعاب التحولات التي قد تمس طبيعة هذه الجريمة، وفي مقابل ذلك فإن المجال سيفتح أمام الاجتهاد الفقهي لمحاولة مقاربة مفهوم هذه الجريمة وإعطاء تعريف تقريبي لماهيتها.
ولهذا جاء المشرع وفقا للفصل 574-1 من القانون الجنائي بأنه تكون الأفعال التالية جريمة غسل الأموال عندما ترتكب عمدا:.
-اكتساب أو حيازة أو استعمال أو استبدال أو تحويل الممتلكات بهدف إخفاء أو تمويه مصدرها، لفائدة الفاعل أو الغير وعندما تكون متحصلة من الجرائم المحدد بعده.
مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب إحدى الجرائم المحددة بعده.
-تسهيل التبرير الكاذب، بأي وسيلة من الوسائل لمصدر ممتلكات أو عائدات مرتكب إحدى الجرائم المحددة بعده،التي حصل بواسطتها على ربح مباشر أو غير مباشر.
تقديم المساعدة أو المشورة في عملية حراسة أو توظيف إو إخفاء أو استبدال أو تحويل العائدات المتحصل عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من ارتكاب إحدى الجرائم المحددة بعده.
وإجمالا يمكن القول أن ماهية جريمة غسل الأموال وفق المشرع المغربي هي كل من اكتسب عمدا أو حاز أو استعمل أو استبدل أو حول عائدات متحصل عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من ارتكابه لإحدى الجرائم المحددة بعده، أو ساعد أو سهل ذلك بالتبرير الكاذب أو بأية وسيلة من الوسائل بهدف إخفاء أو تمويه لمصدرها لفائدة الفاعل أو لفائدة الغير.
يتضح من خلال التعريف الشمولية التي أعطاها المشرع لجريمة غسل الأموال كسائر الجرائم الأخرى المعاقب عليها بتوافر أركان الجريمة القانوني والمادي والمعنوي، يتجلى الأول في توافر نص قانوني يجرم غسل الأموال، والثاني يتجلى في اكتساب أو حيازة أو استعمال أو استبدال عائدات أو أموال متحصل عليها من أنشطة إجرامية، أو ساعد أو سهل ذلك بأية وسيلة من الوسائل.والثالث يتجلى في قصد الفاعل أو الغير من اكتساب أو حيازة أو تحويل أو استبدال عائدات متحصل عليها من أنشطة إجرامية بهدف إخفاء أو تمويه لمصدرها.
ومعلوم في الفقه الجنائي وفقا للرأي الراجح أن القصد الجنائي يتركب من العلم بعناصر الجريمة، ثم إرادة متجهة نحو تحقيق هذه العناصر أو إلى قبولها، وإسقاطا لقصد الفاعل أو الغير في جريمة غسل الأموال متجه إلى علمه بمصدر الأموال المتحصلة بالأساس من نشاطات أو أفعال إجرامية، وإرادة متجهة إلى إخفاء أو تمويه لمصدر هذه الأموال.
إن المشرع المغربي ربط بين الفصل574-1 و574-2 في تعريفه لجريمة غسل الأموال بأن قال "متحصلة من إحدى الجرائم"فعمل على تحديد هذه الجرائم على سبيل الحصر في سبعة أنواع، إن هذا الحصر إن كان يدل فإنما يدل على حكمة ووعي المشرع المطلوبين في مثل هذه الموضوعات ذات الصلة بالأموال.وهذه الجرائم هي:
1) الاتجار في المخدرات والمؤثرات العقلية، ويندرج في نطاقها الأفيون ومشتقاته مثل المورفين والهيروين والكوكايين،بالإضافة إلى مثبطات الجهاز العصبي المركزي كالمنومات والمهدئات والأم فيتامينات والحشيش والمغذيات العضوية.فقد ورد في نشرة الأمم المتحدة لعام 1997 في مقال بعنوان غسل الأموال أن الخبراء يرون أن الاتجار في المخدرات يدر سنويا ما يبلغ 400 مليار دولار أي ما يقارب نحو عشرة أضعاف القيمة الإجمالية لمبالغ المساعدات التنموية الرسمية كافة، وأن حصة الأموال التي يتم غسلها يتراوح ما بين 2 في المائة إلى 5 في المائة من الناتج المحلي العالمي.8
ويمكن القول أن جرائم الاتجار في المخدرات تعتبر الجرائم الأم والمرتع الأصل الذي تولدت عليه جرائم غسل الأموال في أواخر التمنينات من القرن الماضي.
والمغرب واقتناعا منه بضرورة التصدي لظاهرة الاتجار في المخدرات فقد قرر ملائمة تشريعاته الجزائية مع مختلف الاتفاقيات الدولية المناهضة لهذه الجرائم وإصدار ترسانة تشريعية متكاملة،زاوجت بين سبل الوقاية الأولية وبين آليات الردع الجزائي،ومنها على الخصوص ظهير21-5-1974 المتعلق بزجر الإدمان على المخدرات السامة ووقاية المدمنين على استهلاكها، الذي تضمن في مقتضياته أهم المبادئ الأساسية التي وردت في الاتفاقية الدولية للمخدرات لسنة 1961 وبروتوكول 91972
كما أن مدونة الجمارك المغربية عملت على تجريم عمليات تهريب المخدرات وزجرتها بعقوبات حبسية قد تصل إلى ثلاث سنوات وغرامة تعادل خمس مرات مجموع قيمة البضائع المرتكب الغش أو التهريب بشأنها، مع مصادرة وسائل النقل والبضائع المستعملة.
2) المتاجرة بالبشر، إن غسل الأموال كان مرتبطا بالأساس بجريمة الاتجار في المخدرات إلا أن انفتاح العالم على سياسة السوق الحرة، وما أفرزته من أنماط وسلوكيات جديدة لا تقل خطورة عن جريمة الاتجار بالمخدرات، فاستطاعت في ظرف وجيز تحقيق عائدات مالية ضخمة وظفت في مشاريع صورية أو حقيقية، من جملة هذه الجرائم جريمة الاتجار في البشر.
عرفت المجتمعات الإنسانية القديمة الدعارة كمهنة محظورة وهي عادة ما تعرف مدا تصاعديا في ظل أوضاع أو ظروف اجتماعية مزرية يغلب عليها التفاوت الطبقي وتنتشر في أطنابها البطالة والفقر والأمية والجهل.
فقد عرفت تجارة الرقيق الأبيض منعطفا خطيرا حيث ظهرت عصابات إجرامية خطيرة مختصة في تنظيم شبكات الدعارة والتهجير اللا إرادي للفتيات المتعاطيات نحو وجهات أكثر طلبا لها.
والمغرب بحكم موقعه الاستراتيجي الحيوي وانخراطه في مسلسل الانفتاح الدولي وتبني سياسة الاقتصاد الحر، لم يكن بمنأى عن الخضوع لتأثير المد الدولي لشبكات الدعارة، كما أن موطنه وجهة مفضلة لتصريف عائدات وغسل الأموال الطائلة التي تجنيها هذه الشبكات جراء ممارستها لأنشطتها الإجرامية..ولقد استهل المغرب حربه المعلنة على هذه الجرائم بإقرار عقوبات صارمة لمحترفي الدعارة وخاصة التعديلات التي مست القانون الجنائي.
3) تهريب المهاجرين: باعتبار الموقع الجغرافي للمغرب كحلقة وصل ببين الجنوب والشمال، والذي يشكل مصدر قلق ومبعث خوف ودافعا نحو رسم معالم سياسة احترازية لمجابهة أي نوع من الجرائم التي قد تمس من وضع المغرب الجيو استراتيجي.
وتبقى ظاهرة الهجرة السرية من بين المشاكل التي تعرفها الحدود المغربية والتي ليست قاصرة على المواطنين المغاربة الذين يحاولون الوصول إلى الفردوس المفقود، وإنما يشمل المهاجرين الذين يقطعون آلاف الأميال من إفريقيا جنوب الصحراء ليصلوا إلى الحدود المغربية ويقتنصوا الفرصة للعبور نحو أوربا.
إن الخطير ما في الأمر ليس هو رغبة هؤلاء في اكتشاف العالم الغربي، وإنما يتمثل في تواجد شبكات دولية متخصصة في تهجير الراغبين في الهجرة، مما جعل جهود الدول والمنتظم الدولي يجد صعوبات جمة في تطويق الظاهرة، مستغلة بذلك الانفتاح الذي أصبح يعيشه العالم في الآونة الأخيرة.
ولقد تبنى المغرب إستراتيجية تشريعية لمواجهة الهجرة السرية بإقرار آليات تشريعية جديدة لمحاربة الهجرة السرية، فقد عمل المغرب على تبني مقتضيات البروتوكول الدولي لمكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البحر والبر والجو وسن قانون رقم 02.03 المتعلق بدخول وإقامة الأجانب بالمملكة المغربية وبالهجرة غير المشروعة.
4) الاتجار غير المشروع في الأسلحة والذخيرة التي تكتسي خطورة بالغة في سياق تنفيذ العمليات الإجرامية، إذ تسهل عمليات ارتكابها وتقوي فرص واحتمالات نجاح الغرض الإجرامي الذي وظفت لأجله.10
لقد أصبح المغرب في الآونة الأخيرة نقطة عبور هامة وملجأ مناسبا لتهريب بعض أصناف الأسلحة التي عادة ما تستعمل لحماية بعض مافيا تهريب المخدرات في الشمال المغربي، أو للاستعمال في أغراض إرهابية تمس أمن المواطنين والأجانب على حد سواء.
وتقدر مداخيل أرباح الشركات الناشطة في تجارة السلاح بأكثر من236 بليون دولار ، بزيادة 25 في المائة عن السابق، 38 شركة منها تعمل في أمريكا وكند و62 شركة تعمل في أوربا.11
وقد تنبه المشرع إلى خطورة الاتجار بالأسلحة والذخيرة وجعل اختصاص البت فيها لمحكمة استثنائية وهي المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية.
5) الرشوة والغدر واختلاس الأموال العامة والخاصة ويدخل في هدا الباب الاستغلال الغير المشروع للوظيفة العامة لتحقيق المكاسب الشخصية، أو التأثير غير المشروع الذي تحدثه الثروة في النظام السياسي، فعند الحديث عن الفساد عادة ما نركز على ذلك الجزء من المعادلة الخاص بالطلب أي على الموظفين العموميين الذين يستغلون وظيفتهم الرسمية من أجل الحصول على مكاسب شخصية، أما بالنسبة للأولائك الذين يقومون بتقديم الرشوة لهم فعادة ما ينظر إليهم كأطراف بريئة دفعهم تأثير الموظفين الفاسدين إلى دفع الرشوة لهم من أجل الحصول على المنفعة أو الخدمة، وفي الواقع أن كلا الطرفين يكونان شريكين في مؤامرة للتحايل على القانون وتلويث المصادر المالية والتسبب في معاناة آخرين.12
يمكن القول أن هذه النوع من الجرائم تدخل في نطاق ما يسمى بجرائم الفساد المالي والاقتصادي أو جرائم "ذوي الياقات البيضاء"وبصرف النظر عن الاختلاف في الأسماء أو الصيغ فإن إجرام هؤلاء بمختلف مظاهره وأشكاله التقليدية والحديثة يحيلنا على عنصري السلطة والأساليب الذكية المستمدة أولا من عالم التجارة والأعمال، والتي يستعملها مهنيون أو أشخاص ينتسبون إلى الوسط الإجرامي نفسه، أو ينحدرون من أوساط اجتماعية متميزة أو على الأقل يتقمصون دورهم للاستيلاء على مال الغير بسوء نية.13
6) الجرائم الإرهابية التي لم يحدد المشرع المغربي مفهوم دقيق لها عندما عمل على إقرار قانون03.03 ، بل أعطاها مفهوما عاما كسائر الجرائم التي لا يمكن تجريدها عن الإطار الشمولي لمفهوم الجريمة في صورتها التقليدية إلا أن هناك من الخصوصيات ما يميزها عن غيرها من الجرائم.
إن إعلان الحرب على الإرهاب واستحداث آليات قانونية تستهدف مواجهة خطورته ومجابهة تداعياته تبقى مقاربة عقيمة الجدوى ومتواضعة المحتوى ما لم يتم إقرار إطار تعريفي محدد واضح المعالم إذ لا يعقل إيجاد مخرج للأزمة دون تحديد ماهيتها أو الإحاطة بإطارها الشمولي..14
إن الجريمة الإرهابية في نظر المشرع المغربي هي تقوم على ركنين أساسيين أولهما معنوي يتمثل في توافر القصد الجنائي والعنصر العمدي، والثاني مادي موضوعي محوره متعلق بارتباط الفعل الجرمي بمشروع فردي أو جماعي يستهدف المس الخطير بالنظام العام بواسطة التخويف أو الترهيب أو العنف.
7) تزوير النقود وسندات القروض العمومية أو وسائل الأداء الأخرى ،كجريمة لها من الخطورة ما يكفي لقلب اقتصاديات كبرى الدول فما بالك بالدول النامية أو الفقيرة، وعلى هذا الأساس فإن المشرع المغربي أولى أهمية خاصة لهذا النوع من الجرائم،الذي كما سبقت الإشارة تندرج في إطار جرائم الأعمال أو جرائم ذوي الياقات البيضاء.
المطلب الثاني: العقوبات الزجرية على جريمة غسل الأموال.
الفرع الأول: العقوبات الأصلية.
أورد المشرع المغربي في معرض حديثه عن العقوبات الزجرية المتعلقة بجريمة غسل الأموال عقوبات حبسية خاصة بالأشخاص الطبيعيين، وغرامات مالية يشترك فيها الشخص المعنوي والشخص الطبيعي.
1-الشخص الطبيعي
أفرد المشرع المغربي للشخص الطبيعي عقوبات حبسية من سنتين إلى خمس سنوات، ونظرا لخطورة الفعل فإن لسان النقد طال القانون بخصوص هذه النقطة حيث إن العقوبة الحبسية فيها نوع من التراخي حيث كان من المنتظر أن يتم الرفع من العقوبة الحبسية لتصير عقوبة سجنية من خمس إلى عشر سنوات، وذلك بهدف التضييق على مرتكبي هذه الجرائم وعلى استغلال الأموال المتحصلة منها.15
أما الغرامة فقد حددها المشرع من 20.000 درهم على 100.000 درهم.16
2-الشخص المعنوي
عاقب المشرع المغربي الشخص المعنوي بغرامة مالية تتراوح ما بين 500.000درهم و3.000.000 درهم، غير أن هذه العقوبة لا تقف حائلا دون خضوع العاملين بهذه المؤسسات من مسيرين أو مستخدمين للعقوبات المقررة لجرائم غسل الأموال التي تهم الأشخاص الطبيعيين، إذا ثبت تورطهم طبعا.17
الفرع الثاني: العقوبات الإضافية.
بعدما تتقرر العقوبة بخصوص جريمة غسل الأموال والحكم بإحدى العقوبات الأصلية سواء الحبس لفائدة الشخص الطبيعي أو الغرامة للشخص الطبيعي أو المعنوي، فقد ألزم المشرع الهيئة القضائية بالحكم بواحدة أو أكثر من العقوبات الإضافية المحددة وفق المادة 36 من ق ج
*المصادرة الجزئية أو الكلية في حالة الإدانة للأموال المستعملة في ارتكاب الجريمة أو الأموال المتحصل منها، بحيث نطرح السؤال هنا لماذا أقر المشرع المغربي المصادرة الجزئية رغم الإدانة؟ إذ كان عليه الاكتفاء بالمصادرة الكلية للأموال المتحصل من الجريمة والأموال المستعملة في ارتكابها، ولا مجال للحديث عن مصادرة البعض وتسليم البعض الآخر مع الأخذ بمبدأ حسن النية طبعا.
*حل الشخص المعنوي إذا ثبتت مسؤوليته في الجريمة، أما إذا ثبتت مسؤولية مسيريه أو مستخدميه بصفة شخصية، فهنا تطبق العقوبات المنصوص عليها آنفا حسب الحالة دون المساس بحقوق الشخص المعنوي.18
*نشر المقرر أو الحكم المكتسب لقوة الشيء المقضي به الصادر بالإدانة بواسطة جميع الوسائل الملائمة وعلى نفقة المحكوم عليه.19
*المنع المؤقت أو النهائي من ممارسة بصفة مباشرة أو غير مباشرة إحدى النشاطات أو المهن التي ساعدت على ارتكاب الجريمة.
المطلب الثالث: ظروف التشديد والأعذار المعفية.
الفرع الأول: ظروف التشديد.
بالرجوع إلى نص المادة 153 من القانون الجنائي فإن المشرع المغربي فتح الباب أمام إمكانية تحديد ظروف التشديد المتعلقة بجنايات أو جنح معينة، وعلى هذا الأساس حدد المشرع ضمن هذا القانون ظروف خاصة بجريمة غسل الأموال، وإن كان منبعها القانون الجنائي نفسه
وأشار المشرع إلى أن العقوبة في حالة توافر هذه الظروف فإنها ترفع إلى الضعف أي تصير العقوبة الحبسية سجنية من أربع سنوات إلى عشر سنوات والغرامة من 40.000 درهم إلى 200.000 درهم بالنسبة للأشخاص الطبيعيين، ومن 1.000.000 درهم إلى 6.000.000 درهم بالنسبة للأشخاص المعنويين.
والظروف المشدد كما حددها المشرع المغربي هي:
+ارتكاب الجرائم باستعمال التسهيلات التي يوفرها نشاط مهني، بسبب ما توفره هذه الوضعية من ارتفاع نسبة نجاح عملية غسل الأموال وما تمنحه من غطاء وقائي للجاني يمارس في إطاره فعله الإجرامي بكل حرية وطمأنينة.20
+الممارسة الاعتيادية لعمليات غسل الأموال،التي يمكن أن تتصف في بعض الأحوال بوصف الجريمة الكاملة لتعذر كشفها أو الاهتداء إلى مرتكبيها، مما يشجع الجناة على إعادة ارتكاب أفعالهم فتجعلهم محترفين لها يصعب الإيقاع بهم وتزداد فرص نجاح عملياتهم.
+ارتكاب إحدى الجرائم -المنصوص عليها على سبيل الحصر- في إطار عصابة إجرامية منظمة، بالاتفاق المسبق بين الفاعلين، وتوجيه هذا الاتفاق للقيام بإعداد أو ارتكاب جريمة غسل الأموال، حيث تتوزع الأدوار وتقسم المهام وترسم معالم الإستراتيجية المزمع إتباعها كأساس للتنفيذ.
+في حال العود بمعنى أن ترتكب الجريمة بعد الحكم بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به في جريمة من الجرائم المنصوص عليها على سبيل الحصر داخل أجل خمس سنوات.21
والعود حالة قانونية استثنائية تفرض قيام فعل جرمي جديد بعد سبقية ارتكاب جريمة واحدة أو عدة جرائم وصدور أحكام قضائية باتة ضد مرتكبيها، والغاية منه تجنب خطر الجاني الذي دأب على ارتكاب أفعال إجرامية التي لم تستطع العقوبات القضائية الصادرة ضده العمل على تقويم سلوكه تمهيدا لإعادة إدماجه.22
الفرع الثاني: الأعذار القانونية.
من المبادئ الأساسية المستقر عليها الفقه الجنائي كون الأعذار القانونية هي حالات خاصة، حيث لا تنطبق إلا على جريمة أو جرائم معينة، ويترتب عليها مع ثبوت الجريمة وقيام المسؤولية تمتيع المجرم بعدم العقاب متى كانت أعذار معفية وإما بتخفيض العقوبة متى كانت الأعذار مخفضة.
المشرع المغربي في إقراره للقانون المتعلق بغسل الأموال أحال على شروط الأعذار القانونية المشار إليها في الفصول من 143 إلى 145من القانون الجنائي على أنها محددة على سبيل الحصر، وعملا بمقتضاه حدد المشرع للفاعل الأصلي أو للغير المتابع بجريمة غسل الأموال إمكانية الاستفادة من الأعذار المعفية شريطة تبليغه للسلطات المختصة قبل علمها بالأفعال المكونة لمحاولة ارتكاب الجريمة، ويستفيد من الأعذار المخفضة إذا قام بالتبليغ بعد ارتكاب الفعل المكون لجريمة غسل الأموال.
إن الهدف من إقرار الأعذار القانونية في جرائم غسل الأموال يكمن أساسا في السعي إلى تحفيز عاقد العزم على ارتكاب جرائم غسل الأموال على التراجع عن تنفيذ مخططه قبل وقوع الجريمة، ومن تم الحيلولة دون تحقق هذه الجرائم التي تحمل بين طياتها جملة من السلبيات الخطيرة على الاقتصاد الوطني.
المبحث الثاني: المقاربة الوقائية لقانون 43.05 المتعلق بغسل الأموال
المطلب الأول: الأشخاص الخاضعين
أورد القانون بعض التعاريف التي تدخل ضمن أهم مكونات جريمة غسل الأموال وبالخصوص تعريفي العائدات والممتلكات، فالأولى عرفها على أنها جميع الممتلكات المتحصل عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها على سبيل الحصر وفق المادة 547-2 من القانون الجنائي.
والثانية هي كل الأموال المادية والمعنوية المنقولة أو العقارية المملوكة لشخص واحد أو على الشياع وكذا الوثائق والعقود القانونية التي تتثبت ملكية هذه الممتلكات.
يستفاد من التعريفين اللذين أوردهما المشرع أن العائدات هي الأموال المتحصل من عمليات إجرامية سابقة مما حدده المشرع على سبيل الحصر، والممتلكات هي الأموال المستخلصة من عمليات توظيف العائدات لتظهر في نهاية المطاف على أنها أموال نظيفة.
إن المقاربة الوقائية التي يتبناها المشرع من وراء هذا القانون تتجلى في إيجاد رؤية استباقية لجرائم غسل الأموال من خلال التوفر على ترسانة قانونية هدفها التصدي لهذه العينة من الجرائم، لأن انعكاسات هذه الأخيرة وآثارها التدميرية تتميز بطابعها الشمولي الذي يمس أمن واقتصاد المجتمع بأسره، وعلى هذا الأساس فإن المقاربة الوقائية تشمل بين طياتها مقاربة أمنية من جهة ومقاربة مصرفية مؤسساتية من جهة ثانية تتداخل في تركيبتها جهود مجموعة من الفعاليات ذات الاختصاص.
ولهذا حدد المشرع الأشخاص الذاتيين أو المعنويين الخاضعين للقانون العام –باستثناء الدولة- أو الخاص الذين ينجزون أثناء قيامهم بمهامهم عمليات تترتب عنها تحركات الأموال أو يقومون بمراقبتها أو تتم استشارتهم بخصوصها كأشخاص خاضعين لهذا القانون وهم محددين على سبيل الحصر في:
1- مؤسسات الائتمان
2 - الأبناك والشركات القابضة الحرة.
3 - الشركات المالية
4 - مقاولات التأمين
5- مراقبو الحسابات والمحاسبون الخارجيون والمستشارون في المجال الضريبي
-6 الأشخاص الذين يستغلون أو يسيرون كازينوهات أو مؤسسات ألعاب الحظ
7- لأشخاص المنتمون لمهنة قانونية مستقلة،عندما يشاركون باسم زبونهم ولحسابه الخاص في معاملة مالية أو عقارية أو عندما يقومون بمساعدته في إعداد وتنفيذ العمليات المتعلقة ب:
- شراء أو بيع عقارات أو مقاولات تجارية
- تدبير الأموال أو السندات أو الأصول الأخرى التي يملكها الزبون.
- فتح أو تدبير الحسابات البنكية أو المدخرات أو السندات.
- تنظيم الحصص اللازمة لتكوين شركة أو تسييرها
- تأسيس شركة ائتمانية أو بنيات مماثلة أو تسيرها أو إدارتها
وتجدر الإشارة إلى حاجة الأشخاص الخاضعين إلى تكوين في مجال مكافحة غسل الأموال، ولهذا وعدت الحكومة بضمان التكوين وإعادة التكوين لفائدة الأشخاص التي يهمٌها مجال مكافحة غسل الأموال من خلال الاستفادة من برامج تخص المساعدة التقنية في إطار التعاون بين المغرب وبلدان الاتحاد الأوربي،الذي سينطلق قريبا حسب تصريحات وزير الاقتصاد والمالية السيد صلاح الدين مزوار.
المطلب الثاني: التزامات الأشخاص الخاضعين.
الفرع الأول: إلتزام اليقظة.
ألزم المشرع المغربي الأشخاص الخاضعين الآنف ذكرهم بجمع كل المعلومات التي تمكن من تحديد هوية الزبون المعتمد أو العرضي، وإذا كان الشخص معنويا التحقق من الوثائق والبيانات اللازمة من المعلومات الخاصة باسمه وشكله القانوني ونشاطه وعنوانه ورأسماله وهويته وهوية مسيريه والسلطة المخولة للأشخاص المؤهلين لتمثيله إزاء الغير أو للتصرف باسمه بموجب وكالة.
كما ألزم المشرع الأشخاص الخاضعين بعدم القيام بأية عملية إذا لم يتحقق من الهوية الكاملة للأشخاص المعنيين بها أو عندما تكون الهوية غير كاملة.
وعليه فإن إلتزام اليقظة كما توحي بذلك تسميتها تنصرف إلى جميع الإجراءات العملية الهادفة إلى اتخاذ تدابير الحيطة والحذر الاستيباقي من أجل صد كل المحاولات الرامية إلى وضع أو تنفيذ اللبنات الأولى لجرائم غسل الأموال، وفي هذا الصدد تناط بالأشخاص الخاضعين مسؤولية الضبط والتحري عن الهوية الحقيقية لزبناء مؤسساتهم.
وفي هذا الصدد أقر القانون مجموعة من الإجراءات العملية التي ألزم بها الأشخاص الخاضعين القيام بها قبل العمل على فتح حسابات مالية لصاحب الطلب تطبيقا لأحكام المادة 488 من مدونة التجارة ومن هذه الإجراءات نجد:
*التأكد من هوية زبنائهم العرضيين الذين يطلبون منهم القيام بعمليات خاصة
*التأكد من هوية الآمرين بتنفيذ عمليات يكون الغير هو المستفيد منها
*التحري الدقيق حول الهوية الحقيقية للأشخاص الذين يتم فتح حساب أو تنفيذ عمليات لفائدتهم عندما يبدوا أنهم لم يقوموا بذلك لحسابهم الخاص.
*التحري حول هوية الأشخاص الذين يتصرفون باسم زبونهم بموجب توكيل
*التحري حول مصدر الأموال
*التأكد أثناء فتح الحساب من أن صاحب الطلب لا يتوفر على حسابات أخرى مفتوحة في دفاترهم
*التحري حول الأسباب التي على أساسها تم تقديم طلب فتح حساب جديد
*السهر على تحيين الملفات القانونية المتعلقة بحساب الزبناء
*القيام بمراقبة خاصة لحسابات الزبناء التي تبدي درجة مخاطر مرتفعة للعمليات الخاصة بهم
*يلزم الأشخاص الخاضعين بحفظ الوثائق المتعلقة بالعمليات المنجزة من قبل زبنائهم طيلة عشر سنوات ابتداءا من تاريخ تنفيذها.
*يلزم كذلك بحفظ طيلة عشر سنوات الوثائق المتعلقة بهوية زبنائهم المعتادين أو العرضيين ابتداءا من تاريخ إغلاق حساباتهم أو إنهاء العلاقة معهم.
*يلزمون أيضا بالقيام بدراسة خاصة لكل العمليات التي تهم مبالغ يفوق مبلغها الفردي أو الإجمالي، أو تتيح بها ظروف غير اعتيادية أو معقدة ولا يبدو لها مبرر اقتصادي أو موضوعي، وعلى الأشخاص الخاضعين إذ ذاك التحري حول مصدر هذه المبالغ والغرض منها وحول هوية المستفيد منها.
تجدر الإشارة إلى بنك المغرب في تعامله مع أحد الأشخاص الخاضعين وخاصة القطاع البنكي والمالي الذي يخضع لمراقبته وإشرافه، عمل على تكريس واجب اليقظة منذ 2003 بمقتضى المادة 84 من القانون البنكي الصادر في 14 فبراير 2006 وكذا تعليمتين صدرتا بتاريخ 31 يوليوز 2007 عن بنك المغرب تفيد بإحداث مؤسسات الإئتمان لوظيفة الالتزام بالقوانين، هدفها الوقاية من مخاطر العقوبات القضائية أو الإدارية أو التأديبية نتيجة خرقها للمقتضيات القانونية أو المعايير والأعراف المهنية والأخلاق الخاصة بنشاطها. وتبني الحكامة داخل مؤسسات الائتمان التي تشكل مرجعا للممارسات السليمة بإعداد برامج معلوماتية تتلاءم مع معالجة العمليات المشبوهة وتصنيف الزبناء والتزود بأدوات التحليل والرصد.
الفرع الثاني: تقديم التصريح بالاشتباه.
تعتبر مرحلة التصريح بالاشتباه من أخطر المراحل وأدقها على الإطلاق في سياق مواجهة مسلسل مجابهة جرائم غسل الأموال إذ تترتب عنها عواقب قانونية وآثار مالية على مستوى وقدر كبير من الأهمية، كما تعتبر تحديا حقيقيا لأحد أهم المبادئ الكلاسيكية المتعامل بها في المجال المالي والمصرفي، ونقصد بذلك مبدأ سرية التعامل مع الزبون الذي يشكل قاسما مشتركا لدى العديد من التشريعات الدولية
إن مرحلة التصريح بالاشتباه تجسد في واقع الأمر المنطلق الحقيقي المنطلق الحقيقي لبداية مسار المواجهة الفعلية على درب ضبط وكشف جرائم غسل الأموال، كما تشكل الإطار الميداني والأرضية المشتركة التي على ضوئها يتبلور عنصر التعاون والتنسيق بين مجموعة من المصالح المختصة على اختلاف أنواعها (المؤسسات المالية والمصرفية والمؤسسة القضائية ..)23
يقدم الأشخاص الخاضعين كلما ظهرت لهم معالم مبالغ تحوم حولها شكوك بخصوص هوية الزبون أو هوية المستفيدين منها أو مصدرها أن يتقدموا بتصريح بالاشتباه إلى مؤسسة مخول لها تلقي التصاريح بالاشتباه، ولا يمكن أن تخضع العمليات المالية والمصرفية أيا كان نوعها أو طبيعتها أو صفة الأشخاص أو مصدرها للتصريح بالاشتباه إلا بتوافر الشروط والشكليات الأساسية المحددة من طرف القانون، حيث يلزم الأشخاص الخاضعين بانتداب أطراف متمتعة بأهلية مباشرة التصريح بالاشتباه سواء كانوا مسيرين أو مستخدمين لهم من الخبرة والكفاءة العملية في عملية التحري واليقظة.
وعليه فإن الأشخاص الخاضعين ملزمون بجمع المعلومات المتعلقة بجميع المبالغ أو العمليات المشتبه في ارتباطها بغسل الأموال، وكل عملية تكون هوية الذي أصدر الأمر بشأنها أو المستفيد منها مشكوك فيها، وعليهم إطلاع المؤسسة المخول لها تلقي التصريح بالاشتباه على هوية المسيرين والمستخدمين المؤهلين لتقديم التصريح بالاشتباه وربط الاتصال بها واتخاذ التدابير الداخلية الخاصة باليقظة بهدف ضمان التقيد بأحكام هذا القانون، كما ألزم المشرع تقديم التصريح بالاشتباه كتابة، ألا أنه في حالة الاستعجال أجاز تقديمه شفاهة شريطة تأكيده كتابة فيما بعد.
وعند تسلم التصريح بالاشتباه من طرف المؤسسة المخول لها القانون ذلك عليها إشعار الشخص الخاضع المكلف بتقديم التصريح بالاشتباه كتابة عندما يتعلق الأمر بعملية لم يتم تنفيذها بعد، ويجب أن يتضمن التصريح بالاشتباه الإشارة إلى أجل تنفيذ هذه العملية الذي لا يمكن أ يقل عن يومي عمل، كما يقدم التصريح بالاشتباه كذلك في شأن العمليات التي تم تنفيذها في حالة استحالة إيقاف هذا التنفيذ. ويسري نفس الحكم إذا تبين بعد التنفيذ أن الأموال المعنية مستخلصة من غسل الأموال، وعلى الشخص الخاضع إشعار المؤسسة المخول لها القانون تلقي التصريح بكل ما من شأنه تغيير التقديرات التي بني عليها التصريح بالاشتباه الذي سبق تقديمه
الفرع الثالث: التزام الرقابة الداخلية.
تعتبر الرقابة الداخلية المعتمدة من قبل المؤسسات المالية والمصرفية من أهم سبل التصدي الأولي لجرائم غسل الأموال، من خلال إقرار آليات محكمة التنظيم والفعالية متعلقة بالتزام الرقابة الداخلية داخل هذه المؤسسات، خاصة وأنها تعتبر المناط الرئيس في ضبط جميع العمليات المشتبه في ارتباطها بغسل الأموال
إن المشرع من خلال سنه لقانون43.05 أقر أسلوب الالتزام بالمراقبة الداخلية لفعالية هذا الأسلوب في مواجهة جرائم غسل الأموال، من خلال إلزام الأشخاص الخاضعين بوضع تدابير داخلية لليقظة والكشف والمراقبة داخل الأشخاص الخاضعين أنفسهم، وذلك بجمع المعلومات الضرورية حول العمليات التي لها طابع غير اعتيادي أو معقد، وعليهم إخبار مسيريهم كتابة بصفة منتظمة حول العمليات المنجزة من لدن الزبناء الذين يظهر أنهم يشكلون درجة كبيرة من المخاطر، كما عليهم إطلاع المؤسسة المخول لها تلقي التصريح بالاشتباه وسلطات الإشراف والمراقبة الخاصة بهم على جميع الوثائق والمعلومات الضرورية لإنجاز مهامهم، ولا يمكن للأشخاص الخاضعين الاعتراض على عمليات البحث والتحري التي تأمر بها المؤسسة المخول لها تلقي التصريح بالاشتباه، ولا يمكن الاحتجاج بكتمان السر المهني أمامها وأمام سلطة الإشراف والمراقبة المكلفين من طرفه.
الفرع الرابع: وحدة معالجة المعلومات المالية.
في توصية لمجموعة العمل المالي الدولية " GAFI" دعت الدول إلى إحداث خلية المعلومات المالية CRF لتكون مركزا لجمع وتحليل البلاغات الخاصة بالعمليات المشبوهة التي لها علاقة بغسل الأموال أو الجرائم إرهابية، واعتبارا لهذه التوجهات العامة لمجموعة العمل المالي الدولية وتجسيدا للمقتضيات الدولية ذات الصلة اعتمد المغرب هيئة خاصة بمعالجة المعلومات المالية.
وعلى غرار وحدة معالجة المعلومات المالية الفرنسية (TRACFIN) أو الأمريكية (FINCAN) انضافت وحدة معالجة المعلومات المالية التي تعرف اختصارا ب(UTRF) إلى قائمة التسميات المختصرة لهذه الأجهزة والهيئات الإدارية للدول التي اعتمدت قوانين خاصة لمحاربة غسل الأموال24
الفقرة 1: تعريف وحدة معالجة المعلومات المالية.
تعتبر وحدة معالجة المعلومات المالية الإطار المركزي المحوري في ظل قانون 43.05 لمجابهة جميع أشكال وأنواع جرائم غسل الأموال، لتتوزع أدواره بين ما هو تنفيذي وما هو استشاري وفي هذا الصدد تنص المادة 14 من هذا القانون على أنه تحدث لدى الوزارة الأولى وحدة معالجة المعلومات المالية تسمى اختصارا بالوحدة يتواجد على رأسها رئيس معين من طرف الوزير الأول، وهي تتألف من مموعة من الإدارات والأشخاص المعنوية الخاضعة للقانون العام المعنية بمكافحة غسل الأموال، ويحدد كيفية سيرها من طرف الإدارة، التي لها طابع إداري على غرار مجموعة بلدان، ومن المرتقب بعد إنشائها أنه سيتم إدماجها في مجموعة "إغمونت" التي تعد منظمة دولية خاصة تضم وحدة معالجة المعلومات المالية التي من أهم أهدافها تسهيل التعاون بين هذه الوحدات في مال مكافحة غسل الأموال.
للتذكير فقط نشير إلى أن القطاعات الوزارية الرئيسية الثلاث الداخلية والعدل والمالية تنافست طويلا على إيواء واحتضان الوحدة المزمع إنشاؤها منذ الإرهاصات الأولى لقانون غسل الأموال فاستنادا على مشاريع القوانين ذات الصلة عملت مختلف القطاعات الحكومية المعنية على بلورة أنظمة تتلاءم مع نظرياتها وتصوراتها لموضوع وحدة معالجة المعلومات المالية في إطار المنظومة السياسية والإدارية والقضائية المغربية.25
إلا أن قانون 43.05 حسم الأمر لصالح الوزارة الأولى فقد أعلن الوزير الأول السيد عباس الفاسي يوم الجمعة 10 أبريل 2009 عن تنصيب وحدة معالجة المعلومات المالية التي عهد إليها بجمع ومعالجة المعلومات المرتبطة بغسل الأموال واتخاذ القرار بشأنها. وقد جاء في كلمة السيد الوزير أثناء حفل تنصيب الوحدة ما يلي "... وفقا لقانون 43.05 المتعلق بمحاربة غسل الأموال، إننا نحدث اليوم هذه الوحدة لدى الوزارة الأولى –إلى جانبنا- كهيئة تتوفر على الصلاحيات اللازمة والضرورية لتمكينها من القيام بمهامها في أحسن الظروف وبالنجاعة المطلوبة، حيث يعهد إليها جمع ومعالجة وتحليل المعلومات المرتبطة بغسل الأموال واتخاذ القرار بشأن مآل القضايا المعروضة عليها، وتنسيق الأعمال المتعلقة بمعالجة المعطيات المالية والإشراف على وضع الضوابط المتعلقة بها، وكذا تكوين قاعدة للمعطيات المرتبطة بجرائم تبييض الأموال.." وعين السيد الوزير السيد حسن العلوي العبدلاوي رئيسا لوحدة معالجة المعلومات المالية الذي قال إن إنشاء هذه الوحدة يندرج في إطار إتمام الاستجابة لكافة التوصيات الصادرة عن مجموعة العمل المالي بشأن محاربة غسل الأموال وإرساء الهياكل والمساطر الخاصة بالوحدة 26
الفقرة 2 : اختصاص وحدة معالجة المعلومات المالية.
حدد قانون 43.05 جملة من الاختصاصات منها كما سبقت الإشارة ما هو تنفيذي من قبيل تفعيل سبل التنمية والتعاون مع المصالح الخارجية ذات الصلة بموضوع محاربة جرائم غسل الأموال فضلا عن اختصاصات ذات طابع استشاري من بينها :
1) جمع ومعالجة المعلومات المرتبطة بغسل الأموال واتخاذ القرار بشأن مآل القضايا المعروضة عليها.
2) تكوين قاعدة المعطيات المتعلقة بعمليات غسل الأموال
3)الأمر بجمع الأبحاث والتحريات التي تتقدم بها مصالح البحث والتحري والتي تساهم في ممارسة المهمة المنوطة بها والتنسيق بين وسائل عمل تلك المصالح
4) التعاون والمشاركة مع الهيئات الأخرى المعنية في دراسة التدابير التي يمكن اتخاذها لمكافحة غسل الأموال
5) إقتراح أي إصلاح تشريعي أو تنظيمي أو إداري ضروري في مجال غسل الأموال على أنظار الحكومة
6) تحديد مبالغ العمليات والشروط الخاصة بها التي تستلزم تطبيق أحكام القانون المتعلق بغسل الأموال.
7) إعداد تقرير سنوي حول أنشطتها وتقديمه إلى الوزير الأول.
الفقرة 3: صلاحيات الوحدة
سبق القول أنه يقدم الأشخاص الخاضعين كلما ظهرت لهم معالم مبالغ تحوم حولها شكوك بخصوص هوية الزبون أو هوية المستفيدين منها أو مصدرها أن يتقدموا بتصريح بالاشتباه إلى مؤسسة مخول لها تلقي التصاريح بالاشتباه، وعليه فإن المؤسسة المعنية بتلقي التصريح بالاشتباه هي وحدة معالجة المعلومات المالية، فمتى تبتت جدية التصريح بالاشتباه وقامت دلائل قوية على عدم مشروعية العملية المالية موضوع نفس التصريح لشبهة ارتباطها بجرائم غسل الأموال، فإنه طبقا لأحكام المادة 17 من القانون يمكن للوحدة أن تتقدم باعتراض على تنفيذ أي عملية كانت موضوع تصريح بالاشتباه، بيد أن الاعتراض المذكور مرتبط بحيز زمني محدد يتعين عدم تجاوزه محدد في 48 ساعة داخل الأيام المعتبرة قانونا أيام عمل يبتدئ من اليوم الذي تتوصل فيه الوحدة بالتصريح بالاشتباه المذكور، إلا أن هناك أجل استثنائي يمكن اللجوء إليه محدد في 15 يوما اعتبارا من تاريخ انتهاء الأجل الأول بعد الحصول على إذن قضائي من رئيس المحكمة الابتدائية بالرباط بناءا على طلب من الوحدة شريطة توافر موجبات موضوعية أو أسباب تقنية معتد بها واقعا وقانونا كمبرر لطلب التمديد .27
المطلب الثالث: الحماية القانونية للأشخاص الخاضعين للوحدة.
إن الصلاحيات المخولة للوحدة وللأشخاص الخاضعين للقانون العام وخاصة المؤهلين لتقديم التصريح بالاشتباه تصل إلى حد الاطلاع على أسرار الزبناء عرضيين كانوا أم اعتياديين، ورصد خصوصية معاملاتهم وتحركاتهم المالية والتجارية ..مع العلم أن هذه الصلاحيات تعتبر تجاوزا للمبادئ الكلاسيكية للتعامل المالي والمصرفي ولا سيما تلك المتعلقة بمبدأ السرية والحفاظ على خصوصية العميل.
وإن مسألة تقديم التصريح بالاشتباه سواء عن حسن نية أو عن سوء نية هي مسألة موضوعية لمحكمة الموضوع تقدير ذلك بناءا على ما يتوافر أمامها من قرائن وحقائق قانونية وواقعية لتأكيد سوء النية من عدمه، وعلى ضوء هذه الاعتبارات فإنه يحظر إقامة أي دعوى على أساس المسؤولية المدنية أو إصدار حكما بالإدانة، أو عقوبات زجرية الخاصة بالشكوى الكيدية أو الوشاية الكاذبة 28 ضد الأشخاص الخاضعين أو مسيريهم ممن لهم أهلية تقديم التصريح بالاشتباه.
وعلى هذا الأساس ورغبة المشرع في توفير أجواء اشتغال أكثر ملائمة عمل على التوسع في نطاق الحصانة -إن صح التعبير- المخولة لهؤلاء الأشخاص في حالة الإقلاع عن تقديم الحجج المالية التي اعتمدها الشخص المؤهل لتقديم التصريح بالاشتباه بعد أن بنى تصريحه على مجرد استنتاجات أو تكهنات، لا على حقائق ووقائع،ثم في حالة صدور مقرر قضائي يقضي بعدم المتابعة أو بالبراءة بعد تحريك الدعوة لعمومية من طرف النيابة العامة بناءا على التصريح بالاشتباه المقدم للوحدة.
إن الحماية المخولة للأشخاص الخاضعين ومسيريهم وكذا مسؤولي وحدة معالجة المعلومات المالية وأعوانهم، تقابلها في نفس الآن واجبات والتزامات يتعين لزوما التقيد بها تحت طائلة الخضوع للعقوبات الجزائية.
الفرع الأول: التزام المحافظة على السر المهني.
يعتبر السر المهني كمفهوم قانوني صلاحية قانونية ممنوحة لجميع الأشخاص المؤهلين بحكم وظيفتهم أو مهنهم بالاطلاع على خصوصية الأفراد أو الجماعات، يحظر عليهم نشر أو تبليغ كل ما له علاقة بموضوع اشتغالهم إلى العموم 29.
غير أنه في ظل العمل على الحفاظ على الاقتصاد الوطني سعى المشرع إلى وضع قاعدة تشكل استثناءا عن القاعدة العامة المتمثلة في الحفاظ على السر المهني عندما يتعلق الأمر بتدابير البحث عن مبالغ أو عمليات يشتبه في ارتباطها بغسل الأموال،إذ أقرت المادة 13من قانون 43.05 على عدم إمكانية احتجاج الأشخاص الخاضعين بالسر المهني في مواجهة وحدة معالجة المعلومات المالية وسلطات الإشراف والرقابة، كما أنه لا يمكن لنفس الأشخاص الامتناع من الاستجابة لكل ما يتطلبه البحث والتتبع والتفتيش المأمور بها من قبل الوحدة، وكذا العمل على تذييل كل الصعاب والعراقيل أمامها لإنجاز مهامها.
غير أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال إفشاء السر للأغيار ممن لا علاقة لهم بالرقابة والتتبع بل عليهم العمل على المحافظة بشكل كلي على السر المهني وعدم إفشائه تحت طائلة العقاب كما نصت على ذلك المادة 446 من القانون الجنائي كما أن هذا الحظر يمتد ليستمر حتى بعد انتهاء مهامهم.
ولا يجوز استعمال المعلومات المتوصل إليها أثناء عمليات التحري والبحث والتتبع من قبل أعوان الوحدة إلا في خدمة الأهداف المسطرة في إطار العمل الوقائي من غسل الأموال.
الفرع الثاني: الإخلال بالواجب المهني.
سبق القول أن من بين مهام الأشخاص الخاضعين تقديم التصريح بالاشتباه والتزام اليقظة التزام المراقبة الداخلية التي تكتسي أهمية استثنائية في عملية رصد التحركات المالية المشبوهة والتي لها ارتباط بغسل الأموال، ولا يمكن بأي حال من الأحوال للأشخاص الخاضعين الإحجام بشكل متعمد عن القيام بمهامهم أو الإخلال بها، وفي حالة الإخلال فإن المشرع وفقا للمادة 29 من قانون 43.05أقر عقوبات مالية في حق الأشخاص الخاضعين المتورطين في هذا الإخلال تتراوح بين 100.000 درهم و500.000 درهم تصدرها وحدة معالجة المعلومات المالية .
المبحث الثالث: اختصاص النظر في قضايا غسل الأموال.
عند الحديث عن الاختصاص فإننا نقصد بذلك مدى أهلية محاكم المملكة للنظر نوعيا ومكانيا في الخصومات المتعلقة بجرائم غسل الأموال والجرائم المرتبطة بها.
الفرع الأول: الاختصاص النوعي في جرائم غسل الأموال.
معلوم أن الاختصاص النوعي هو من النظام العام ،وللمحكمة السلطة العامة في إثارته قبل كل دفاع في الجوهر، ووفقا للمادة 251 من قانون المسطرة الجنائية فإن النظر في الجرائم ينعقد بالمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف ما لم ينص قانون على خلاف ذلك، واعتبارا لكون المحاكم الابتدائية هي المختصة بالنظر في الجنح والمخالفات طبقا للمادة 252 من قانون المسطرة الجنائية، فإن اختصاص النظر في جرائم غسل الأموال مخول للمحكمة الابتدائية بالرباط على اعتبار أن المشرع كيٌف هذه الجرائم في إطار الجنح لكون العقوبة الحبيسة تتراوح ما بين سنتين وخمس سنوات.
الفرع الثاني: الاختصاص المكاني.
الأصل في أن الاختصاص المكاني في الجرائم العادية يرجع وفقا للمادة 259 من قانون المسطرة الجنائية إلى المحكمة التي يقع في دائرة نفوذها إما محل ارتكاب الجريمة أو محل إقامة المتهم، أو محل إقامة أحد المساهمين أو المشاركين معه، أو مكان إلقاء القبض على أحدهم، غير أن هذه القاعدة يمكن الخروج عنها في حالة وجود نص تشريعي استثنائي ينص على خلاف ذلك، كما هو الشأن بالنسبة لجرائم غسل الأموال حيث جعل الاختصاص لمحاكم الرباط، إلا أنه بصفة استثنائية يمكنها عقد جلساتها في مقرات محاكم أخرى متى اقتضت الضرورة ذلك.
الفرع الثالث: المسطرة المتبعة لتحريك الدعوة العمومية في جرائم غسل الأموال.
بمجرد ما تتوصل وحدة معالجة المعلومات المالية بمعلومات تدل على وجود أفعال من شأنها أن تكون جريمة غسل الأموال، فإنها تعمل على رأب الصدع من خلال التقدم باعتراض على تنفيذ العمليات موضوع المعلومات المتقدم بها في التصريح بالاشتباه، المقدم من قبل أحد الأشخاص الخاضعين داخل أجل محدد في يومين كأجل عادي أو خمسة عشرة يوما كأجل استثنائي، وبموازاة ذلك تعمل –الوحدة- على رفع الأمر إلى السيد وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالرباط، لتحريك الدعوة العمومية في حق كل من ثبت تورطه في هذه العمليات سواء بصفة فاعل أصلي أو مساهم أو مشارك، بعدها تقوم النيابة العامة بإجراء كافة التحريات والأبحاث عن طريق الاستماع إلى المشتبه فيهم وإجراء المواجهات الضرورية، ويمكن لوكيل الملك أن يأمر بالتجميد أو بالمنع المؤقت من تحويل أو استبدال الممتلكات أو التصرف فيها أو تحريكها، كما يمكنه تعيين حارس قضائي عليها، وذلك لمدة شهر واحد قابلة للتمديد مرة واحدة، في إطار البحث التمهيدي للوصول إلى الحقيقة، وفي نفس السياق تشارك الوحدة في عمليات البحث والتحري والتفتيش ومن تم إبلاغ النيابة العامة بكل ما تتوصل إليه من نتائج.
وبعد انتهاء البحث التمهيدي فإن وكيل الملك يتخذ القرار الذي يراه مناسبا بعد دراسته للكل الوثائق والحيثيات المتوصل إليها في النازلة، إما بحفظ المسطرة لانعدام العنصر الجرمي، أو لانعدام الأدلة الكافية أو لحين إلقاء القبض على الفاعلين كانوا أصليين أو مساهمين أو مشاركين، أو بتحريك الدعوة العمومية في حق المعنيين بالأمر متى تبين للنيابة العامة وجود أدلة وقرائن كافية لتحريك المتابعة، وأخيرا وليس آخرا إذا تبين لوكيل الملك أن البحث التمهيدي لم يكن كافيا لاستجلاء الحقيقة، وأنه مشوب بنقص في بعض جوانبه أمكن إذ ذاك إحالة القضية على السيد قاضي التحقيق بها لمباشرة تحقيق إعدادي في النازلة.
ويمكن لوكيل الملك أو لقاضي التحقيق الأمر بحجز ممتلكات الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين المشتبه تورطهم مع أشخاص أو أنشطة لها ارتباط بغسل الأموال، حتى في حالة عدم ارتكابها داخل المغرب، كما يمكنهما بناءا على طلب منهما الاطلاع على الوثائق والمعلومات المحصل عليها أثناء قيام الوحدة بمهامها، باستثناء التصريح بالاشتباه وفقا للمادة 21 الفقرة الثانية من قانون43.05.ويتعين وجوبا تبليغ الوحدة بكل القرارات النهائية الصادرة عن وكيل الملك.
خاتمة:
لقد أكد الأستاذ عبد الواحد الراضي وزير العدل السابق في معرض كلمته التي ألقاها بمناسبة الحملة التحسيسية حول موضوع "الوقاية من غسل الأموال حماية لاقتصاد سليم" قوله..."إن قانون مكافحة غسل الأموال جاء بعد تفكير وترو وحوار موسع يروم انتهاج استراتيجية متكاملة تهدف إلى الحفاظ على المصلحة الاقتصادية للوطن من خلال حماية حرية المبادرة، والمنافسة الشريفة، وضمان الشفافية،والاستقرار لرؤوس الأموال النظيفة، وتبديد كل ما من شأنه التأثير سلبا على الثقة في مقومات اقتصادنا الوطني .."
إن هذه الحملة التحسيسية خرجت بالعديد من التوصيات لكنها بقيت شأنا داخليا حتى يتسنى للقطاعات المعنية بغسل الأموال وخاصة الأشخاص الخاضعين تبني مقاربة وقائية وفق ما جاء به قانون 43.05 هذا ما أكده السيد عبد اللطيف الجواهري والي بنك المغرب في كلمة ألقاها في نفس المناسبة حيث قال ".. وإنني على يقين بأن الاقتناع الراسخ لدى كل الأطراف المساهمة في تحقيق الأهداف المتوخاة من هذه الحملة لخير ضمان لإنجاح أشغالها التي سوف تتوج لا محالة، باعتماد توصياتها النهائية التي من شأنها المساعدة على تبني المقاربة الوقائية من طرف جميع الأشخاص الخاضعين وتيسير تطبيق القانون..."
وهكذا يمكن القول أن المغرب من خلال هذا القانون حاول أو يحاول تحصين أدائه الاقتصادي من خلال العمل على القضاء على كل العناصر الخارجية والداخلية التي ما فتئت تسيء إلى سمعة الاقتصاد الوطني، وكانت تستغل الفراغ التشريعي في هذا الباب، ليتدخل المشرع لسده في وجه على كل من سولت له نفسه العبث بالميكانيزمات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. ويأتي تنصيب وحدة معالجة المعلومات المالية كلبنة أساسية ضمن المنظومة القانونية والتنظيمية الوطنية الخاصة بمكافحة غسل الأموال والجرائم المالية المرتبطة بها وكرد فعل على أن الحكومة المغربية تعمل جاهدة على توفير كل الحاجيات الضرورية للعمل على إيقاف كل الجرائم المرتبطة بغسل الأموال.
يقول الله عز وجل "سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون" 30
صدق الله العظيم.
المراجع
1)أيمن بن التهامي عن موقع www.elaph.com
2) ذ. رشيد المدور عن فريق العدالة والتنمية في معرض تدخله أثناء مناقشته لمشروع قانون 43.05
3)أنظر العنوان الإليكتروني www.lebarmy.gov.lb/article.asp
4) ذ. نادر عبد العزيز شافي ماجيستير في قانون الأعمال عن مؤلفه تبييض الأموال.
5)الموقع الإليكتروني www.lebarmy.gov.lb/article.asp
6)المحامي يونس عرب في دراسته لجرائم غسل الأموال ، دراسة في ماهية ومخاطر جرائم غسل الأموال.
7)الأستاذ يوسف بنصابر سلسلة الدراسات القانونية والأبحاث القضائية كتاب الواحة القانونية العدد 3 ص 49.
8) ذ. احمد بن محمد العمري " جريمة غسل الأموال نظرة دولية لجوانبها الاجتماعية والنظامية والاقتصادية
9) ذ. يوسف بنصابر المرجع السابق له .
10) المرجع السابق.
11)المرجع السابق.
12) ) ذ. احمد بن محمد العمري " جريمة غسل الأموال نظرة دولية لجوانبها الاجتماعية والنظامية والاقتصادية
13أ.أحمد آيت الطالب وأ. فاضل أطاع الله ملف جرائم الفساد الاقتصادي والمالي أو جرائم ذوي الياقات البيضاء –مجلة الشرطة العدد 13
14) يوسف بنصابر المرجع السابق ص120
15) موقف المنسق الوطني لحماية المال العام من خلال مقاله بجريدة الصباح العدد 2109
16الفصل 3-574 من لقانون الجنائي
17) نفس الفصل
18)الفصل 47 من القانون الجنائي
19)الفصل 48 من القانون الجنائي.
20)يوسف بنصابر المرجع السابق له ص 196
21)الفصل 156 من القانون الجنائي.
22) يوسف بنصابر المرجع السابق ص199
23) ذ يوسف بنصابر المرجع السابق ص159
24) أ. أحمد آيت الطالب -مجلة الشرطة- العدد 35 لسنة 2007 -ملف تبيض الأموال بشأن وحدة معالجة المعلومات المالية.
25) المرجع السابق.
26) عن موقع www.maghress.com/almasae
27) ذ يوسف بنصابر المرجع السابق ص165
28الفصل 445 من القانون الجنائي.
29) يوسف بنصابر المرجع السابق.
30) الآية 124 من سورة الأنعام.
* منتدب قضائي بمحكمة الاستئناف بالرباط باحث في قانون الاعمال
تعليقات
إرسال تعليق
تعليقك يهمنا