تقديم حول موضوع البحث
يعتبر النقل همزة وصل بين الدول، ووسيلة فعالة للتواصل بين الشعوب والأفراد، فهو يعد بحق إحدى الدعائم والركائز الاقتصادية والاجتماعية في العصر الحديث[1].
فميدان النقل عرف تطورا سريعا ونجم عن هذا التطور سرعة في وتيرة المعاملات والعلاقات الاجتماعية، والتجارية والاقتصادية في مختلف البلدان، غير أن هذا التقدم الهائل في ميدان المواصلات ترتبت عنه بعض النتائج السلبية تمثلت أساسا في الأضرار التي تلحق بأفراد المجتمع نتيجة استخدام وسائل النقل الحديثة ،حتى غدت وسيلة النقل من الضروريات التي لا يستغني عنها الفرد في تنقله داخل بلده وخارجها لأغراض اقتصادية وتجارية وسياحية ،غير أن هذه الآلة لم تخل من مشاكل من تدمير للبيئة ، وإلحاق أضرار جسيمة بالإنسان، إلى القضاء على حياة الفرد[2] .
وكان لهذا التطور أثر كبير على نظام المسؤولية المدنية بوجه عام، ومسؤولية ناقل الأشخاص بوجه خاص، فبدأ الفقه والقضاء رحلة البحث عن طبيعة وأساس مسؤولية الناقل بعوض أو بالمجان، وذلك في غياب نصوص صريحة تحدد طبيعة وأساس المسؤولية في مجال النقل البري للأشخاص، هذا الفراغ التشريعي إن صح هذا التعبير، جعل جمهور الفقه والقضاء يبحث في القواعد العامة لتحديد مسؤولية ناقل الأشخاص.
وبالرجوع إلى التشريع الفرنسي نجده قد عالج باهتمام كبير المسؤولية المترتبة عن نقل البضائع وجعل الالتزام المترتب عنها التزاما بتحقيق نتيجة، وذلك بضمان إيصال البضاعة إلى محطة الوصول سليمة، وهذا ما نصت عليه المادة 1784 في القانون المدني الفرنسي.
وبمقتضى هذه المادة فإن الناقل لا يستطيع أن يدفع عنه المسؤولية إلا إذا أثبت أن الضرر راجع إلى السبب الأجنبي المتمثل في الحادث الفجائي أو القوة القاهرة، بينما إذا تعلق الأمر بنقل الأشخاص فإن قواعد المسؤولية التقصيرية المبنية على الخطأ الشخصي هي الواجبة التطبيق استنادا إلى الفصل 1382 سواء في حالة وجود عقد النقل أم في حالة النقل بالمجان، وقد ظل القضاء الفرنسي عقودا من الزمن يميز بين نقل الأشياء ونقل الأشخاص وكانت أحكامه تتميز بتشديد مسؤولية الناقل في الأولى. وتخفيفها في حالة نقل الأشخاص، وقيل لتبرير هذا التمييز أن الأشياء ساكنة وتحت السيطرة الكاملة للناقل، بخلاف نقل الأشخاص فإن الراكب يملك حرية التصرف والتنقل، وقد يأتي بسلوكه الطائش فعلا يكون سببا في وقوع الحادثة، وليس من العدل أن يكون الناقل ضامنا للراكب كما يضمن الأشياء[3].
ونظرا لسهام النقد الموجهة إليه من طرف الفقه الذي كان ينادي بجعل مسؤولية ناقل الأشخاص بعوض مسؤولية عقدية تتضمن التزاما بضمان سلامة المسافرين، عدل القضاء الفرنسي عن موقفه السابق بإعلان مسؤولية ناقل الأشخاص بعوض مسؤولية عقدية، تتضمن التزاما يقع على عاتق الناقل يقضي بإيصال المسافر إلى وجهته سليما معافى، وحدث هذا التحول القضائي في 21 نونبر 1911 حيث قضت محكمة النقض الفرنسية بأن " تنفيذ عقد النقل يتضمن بالنسبة للناقل الالتزام بتوصيل المسافر سليما معافى إلى جهة الوصول"[4].
ونظام المسؤولية المدنية في مجال النقل وحوادث السير عرف تطورا ملحوظا على مستوى النقل بالمجان تجلى ذلك في تحديد طبيعة المسؤولية، لقد ذهب جانب من الفقه والقضاء في فرنسا إلى اعتبارها مسؤولية عقدية بينما الاتجاه الغالب في الفقه والقضاء ذهب إلى القول بأنها مسؤولية تقصيرية.
وفي سنة 1928 ظهر تحول جديد على مستوى تحديد أساس المسؤولية التقصيرية للناقل بالمجان فذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى التفرقة داخل النقل بالمجان بين النقل على سبيل المجاملة وبين النقل على سبيل المصلحة، ففي حالة النقل على سبيل المجاملة تكون مسؤولية الناقل مبنية على الخطأ الواجب الإثبات، استنادا إلى الفصل 1382 الذي يقابله الفصل 77 من ق. ل. ع، وفي حالة النقل على سبيل المصلحة للناقل تطبق مقتضيات الفصل 1384 من القانون المدني الفرنسي المقابل للفصل 88 من ق. ل. ع إلى أن تراجع القضاء الفرنسي عن هذه التفرقة سنة 1968 وفي المغرب سنة 1967 فأصبحت مسؤولية الناقل بالمجان مسؤولية مفترضة[5].
وكان للتأمين أثر كبير على مسؤولية الناقل بصفة عامة، ومسؤولية ناقل الأشخاص بالمجان بصفة خاصة، وفي هذا الصدد ذهب الدكتور محمد الكشبور إلى القول بأن موقف محكمة النقض الفرنسية قبل سنة 1968 كان متعمدا، إذ كان يرمي إلى التخفيف على الناقل الذي قدم خدمة مجانية للراكب، إلا أن مثل هذا الموقف لم يعد مبررا بعد ظهور التأمين الإجباري على السيارات وأن شركة التأمين بما لها من إمكانيات مالية تستطيع أن تحل محل المسؤول المدني[6].
وهناك من يرى[7] بأن التوسع في تبني نظام تأمين المسؤولية أدى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى إضعاف عناية المؤمن له ، وذلك بتجاهل فكرة الخطأ ،لأن من يتحمل نتائج هذا الخطأ ليس المسؤول المدني المخطئ ، بل المؤمن وهو شخص أجنبي عن الخطأ المرتكب ويلتزم بدفع مبلغ التعويض لفائدة المتضرر،وقد يغري هذا التطور الحاصل في نظام تأمين المسؤولية على الإهمال والتقصير وعدم اتخاذ التدابير اللازمة لتفادي إلحاق الضرر بالغير.
وعلى صعيد أهمية الموضوع فهو يكتسي أهمية اقتصادية واجتماعية. فالأهمية الاقتصادية لنقل الأشخاص غير خافية على أحد، فكثير من المقاولات الكبرى والشركات والأفراد اتجهوا إلى استثمار أموالهم في مجال نقل الأشخاص عبر الحافلات والسيارات داخل المدن وخارجها، ومنهم من فضل الاستثمار في ميدان الأسفار والسياحة، أضف إلى هذا فإن قطاع النقل يشغل الكثير من اليد العاملة، ويساهم بدوره في التخفيف من ظاهرة البطالة التي يعرفها المغرب.
وتتجلى الأهمية الاجتماعية لموضوع بحثنا في تقصي مظاهر الحماية التشريعية والقضائية لجمهور المسافرين، مع معالجة الأسس الكفيلة بإعادة التوازن بين الطرفين (الناقل والمسافر).
إن الحديث عن مسؤولية الناقل البري للأشخاص يستدعي لزوما التطرق إلى حوادث السير بالمغرب لأن هناك ارتباطا وثيق الصلة بين مسؤولية الناقل وحوادث الطريق.
إن التزايد الملحوظ في حوادث السير، وكذا حجم الخسائر المادية والبشرية الناجمة عنها أضحى مشكلا كبيرا يواجهه المغرب ويسعى جاهدا للحد منه، فخلال سنة 2004 فقط سجلت عبر مختلف الطرق بالمغرب 51687 حادثة سير نتج عنها 84044 ضحية، توفي منهم 3894، منها 13936 حادثة وقعت خارج المدار الحضري وأدت إلى وفاة 2022 شخصا و 37751 حادثة داخل المدار الحضري نتج عنها وفاة 1182 شخصا[8] .
يلاحظ من خلال هذه الأرقام ارتفاع الحوادث داخل المدن مع انخفاض الوفيات عكس ما عليه الأمر خارج المدار الحضري ،الذي يتميز بانخفاض الحوادث وارتفاع نسبة الوفيات، وهذا راجع إلى السرعة المفرطة التي تنتج عنها إصابة قاتلة، وعلى العموم فنحن أمام حوادث تأتي على الأخضر واليابس، تخلف خسائر بشرية واقتصادية تقدر بملايين الدراهم، وتساهم في حوادث النقل عدة عوامل منها:
ما يرتبط بأخطاء في السياقة كعدم احترام إشارات المرور وضوابط السير عبر الطرق، كالسياقة في حالة سكر وتعاطي المخدرات، وتجاوز السرعة القانونية...
بالإضافة إلى عوامل أخرى ساهمت في هذه الحوادث منها ما يتعلق بحالة ميكانيكية للعربة التي لا تتوفر فيها شروط السير عبر الطرق، إضافة إلى الأسباب المرتبطة بالطريق إما لعدم صيانتها وإما لكونها تعرف كثافة في السير مع عدم قدرتها على استيعاب العدد الكبير من السيارات والحافلات[9].
إن الأسباب التي دفعتني إلى اختيار هذا الموضوع ترجع أساسا إلى أهميته، ولكون الكتابة في مجال نقل الأشخاص لم تحض باهتمام كبير من طرف الباحثين مقارنة بالأبحاث الغزيرة في ميدان نقل الأشياء والبضائع، إضافة إلى أن هذا الموضوع له علاقة وطيدة بفترة التدريب[10] التي قضيتها بالمندوبية الجهوية للنقل بوجدة زيادة على أن المسؤولية المدنية بوجه عام تطرح عدة إشكالات ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالمسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية في مجال نقل الأشخاص.
ففي مجال النقل بعوض تطرح عدة إشكالات تحتاج إلى إيجاد حلول لها استنادا إلى تفسير النصوص القانونية وتطبيقها في العمل القضائي، مثل تحديد طبيعة الالتزام بضمان السلامة هل هو التزام ببذل عناية أم بتحقيق نتيجة؟ ثم ما هو النطاق الزمني لهذا الالتزام؟ وفي حالة وفاة المضرور في حادثة النقل فعلى أي أساس يستند الورثة للمطالبة بالتعويض تطبيقا للمسؤولية العقدية أم التقصيرية؟
وفي ميدان نقل الأشخاص بالمجان بدوره يطرح إشكالات على مستوى تحديد الأساس القانوني للمسؤولية وموقف الاجتهاد القضائي المغربي من حراسة الشيء غير الحي.
هذه الإشكالات وغيرها سنجيب عليها من خلال تقسيم هذا الموضوع إلى فصلين:
الفصل الأول: القواعد العامة للمسؤولية المدنية المترتبة على عقد الناقل البري للأشخاص.
الفصل الثاني: ماهية النقل بالمجان وأحكام دعوى المسؤولية.
تعليقات
إرسال تعليق
تعليقك يهمنا